الإمام السيد موسى الصدر عالمٌ رباني ومفكرٌ رسالي، وقائدٌ قدوة ومجاهدٌ مؤمن، نذر عمره وحياته في خدمة الإسلام والإيمان، داعي الحوار ورسول المحبة والسلام، مؤسس ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وزعيم الطائفة الاسلامية الشيعية فيه، وأبرز قادتها وأشهر علمائها، مؤسس حركة المحرومين والمدافع الأول عن المستضعفين، مطلق شرارة المقاومة والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي ورائد مسيرتها الجهادية الطويلة، المنفتح على الاختلاف والمجدد للتأصيل، هو من عائلة عريقة تضرب جذورها عميقاً في التدين والالتزام والتقوى والورع، تعود بداياتها إلى السيد صالح شرف الدين، من قرية شحور العاملية في جنوب لبنان.
وعائلة آل الصدر يحفل تاريخها الإيماني الرسالي، بنجوم لامعة من مفاخر المراجع وعلماء الدين الذين حملوا لواء الإسلام وراية المذهب بكل وعي وإخلاص وتفانٍ، وتشهد لهم بذلك ساحات العمل والجهاد في لبنان والعراق وإيران، على وجه الخصوص إسماعيل الصدر، ومحمد باقر الصدر، وموسى الصدر، ومحمد محمد صادق الصدر رموز شامخة وقيادات مجاهدة، من تلك السلسلة العلمائية الطاهرة، التي خدمت الإسلام والمسلمين وهي ما زالت على ذات الدرب الحسيني الخالد ، وهذا ما لا يحلو للعديد من الجهات والقوى المعادية للإسلام والمسلمين، ومن هنا اقتضت مصالحها أن تُغيِّب العالم والقائد المجاهد الإمام موسى الصدر عن ساحة الوجود والنفوذ الكاسح في أوساط الأمة، ووقف مده الثوري، كما فعلت مع أقرانه أمثال آية الله العظمى الشهيد محمد باقر الصدر، وآية الله العظمى الشهيد محمد صادق الصدر.
وكان الإمام السيد موسى الصدر قد ولد في 15 نيسان/ أبريل 1928م في مدينة "قم" الإيرانية وتلقى في مدارسها الحديثه علومه الابتدائية والثانوية، كما تلقى دراسات دينية في كلية "قم" للفقه. تابع دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة طهران، وكانت عمّته أول عمامة تدخل حرم هذه الجامعة، وحاز الإجازة في الاقتصاد. أتقن اللغتين العربية والفارسية، وألمّ باللغتين الفرنسية والانكليزية. صار أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق في جامعة "قم" الدينية. انتقل في سنة 1954 إلى العراق، وبقي في النجف الأشرف أربع سنوات يحضر فيها دروس المراجع الدينية الكبرى: السيد محسن الحكيم، الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد أبو القاسم الخوئي في الفقه والأصول. تزوج سنة 1955 (من تروين خليلي) ، ورزق أربعة أولاد صبيين (صدر الدين وحميد) وبنتين (حوراء ومليحة).
في استعادة لبعض محطات تلك المسيرة النورانية المباركة لهذا العالم الرباني، كان لـ"الانتقاد" هذا الحديث مع السيد حسين شرف الدين، القريب من عائلة الإمام الصدر (زوج شقيقة الإمام الصدر، السيدة رباب) الذي عاد بنا إلى أيام ذاك الإمام القادم من الزمن الآخر...
تهيئة الأرضية لحضور الإمام إلى صور
عندما أفلت شمس سماحة المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين"قده" غروب عام 1957 (30/12/1957) كان لا بد لبدرٍ جديدٍ أن يولد ولفجرٍ جديدٍ أن ينبلج، فالثلمة التي يتركها العالمِ بفراغه لا يسدها شيء، اللهم إلا عالمٌ آخر يكمل الدرب ويتابع المشوار...
بعد وفاة السيد شرف الدين، تعاقب أكثر من إمام على مسجد صور، ولكن ما كان الانسجام ليحصل بين المؤمنين وعالم الدين الوافد، فالمؤمنون في صور اعتادوا نمط التعاطي مع السيد الراحل على مدى نصف قرن من الزمان، اعتادوا اسلوب الخطاب وطريق الوعظ وطريقة التوجيه، اعتادوا إمامته لجماعتهم وإشرافه على مناسباتهم الدينية، باختصار اعتاد المؤمنون طريقته في إدارة حياتهم الدينية.. وألفوه وألفوها.
وكان الإمام الصدر قد قدم إلى لبنان ـ أرض أجداده ـ أول مرة عام 1955، فتعرف إلى أقاربه وأنسبائه في صور وشحور ، وحل ضيفاً في دار السيد شرف الدين الذي تعرف إلى شخصية الإمام الصدر وخصائصه ومواهبه ومزاياه، وأبدى إعجابه به في مجالسه بما أوحى برضاه عنه وقناعته بجدارته في أن يخلفه في مركزه بعد وفاته ليكمل مسيرته..
بعيد ذلك، كتب السيد عبدالله شرف الدين إلى السيد موسى (وهو زوج ابنة خالة السيد موسى، وعديل أخيه السيد رضا) يدعوه لقضاء عطلة الصيف في لبنان، وهو الذي كان قد زار لبنان لسنتين خلتا. صحيحٌ أن الكتاب كان مجرد دعوة لقضاء عطلة في لبنان ولم يحمل دعوة رسمية للعيش فيه. إلاّ أن الهدف الحقيقي من دعوة السيد الصدر كان إقناعه بالقدوم إليه والبقاء فيه..
لم تكن هذه رغبة المرجع الديني السيد عبد الحسين وبعده أبناء السيد (الذين كانوا يقيمون في النجف) فحسب، بل إن جمعاً من أهل وأنسباء وأصدقاء (بينهم علماء دين) الإمام أيضاً كانوا يصرون عليه أيضاً للعيش في لبنان ويشجعونه وينصحونه..
وفعلاً، في عام 1959 حضر الإمام الصدر إلى لبنان، ونزل في دار السيد عبد الحسين شرف الدين (التي كان يسكنها نجل العلامة السيد جعفر) في صور، ليقضى فيها شهراً استطلع خلاله أجواء الناس واطلع على واقعهم وأحوالهم وعايش همومهم وشجونهم، التقاهم في مناسبات العزاء وغيرها من اللقاءات والأوقات، كذلك كان مضيف الإمام السيد جعفر يدعو إلى منزله بعضاً من المعارف والأصدقاء والوجهاء، والتجار والسياسين والحزبيين، وغيرهم من فعاليات المجتمع ونخبه للتعرف الى الإمام والحديث والنقاش.. وفي نهاية ذلك الشهر عاد الإمام إلى إيران طالباً مهلةً للتدبر والتفكير واتخاذ القرار، ولاستمزاج رأي العائلة، مدركاً أهمية وتاريخية هذا القرار المفصلي الخطير ..
وصول الإمام الصدر الى صور
عشية عام 1959 كان رأي الإمام الصدر قد استقر على البقاء في لبنان لأداء المهمة التي رأها تكليفاً شرعياً واعتبرها واجباً مقدساً، فأتى لبنان وحل مجدداً ضيفاً كريماً في منزل السيد عبد الحسين شرف الدين"قده" في غرفة خصصت له في انتظار تجهيز المنزل المناسب له ولعائلته..
المؤمنون الذين افتقدوا السيد عبد الحسين شرف الدين ونهجه، وما ألفوا من خلفوه من أئمة وعلماء (رغم قصر تلك الفترة)، وجدوا في الإمام الصدر ضالتهم، ورأوا فيه خشبة خلاصهم ومقصد بوصلتهم ومرسى سفينتهم، واستمراراً لنفس النهج وإكمالاً لذات المسيرة، وهو الأمر الذي حرص الإمام على تأكيده من خلال مواقفه وسلوكاته وأفعاله، لقد آنسوا منه هدياً ورشداً، ومنحوه حباً وطوعاً وولاءً، فمنحهم وداً واهتماماً وعزاً وعلواً.
الإمام يكمل نهج السيد...خير خلف لخير سلف
حرص الإمام الصدر في بداية مشواره على إكمال طريق المرجع شرف الدين، وقد أبدى رغبة كبيرة في تظهير هذا الموقف وتأكيد هذا المعنى، فما كان الإمام يأتي بفعلٍ إلا ويؤكد هذا المعنى وهذا الموقف.. لقد أبقى الإمام الصدر عائلته وأخواته – بعد حضورهم إلى لبنان – في دار السيد شرف الدين، رغم أن المنزل الذي خصص له كان قد أنجز واكتمل تجهيزه.. وكأنه كان يريد القول بأن هنا تكون البداية، ومن هذا الدار نكمل المشوار ..
في جامع صور ألقى السيد الصدر خطبه ووجه نصحه والتوجيهات، وفي نادي الإمام الصادق أقام احتفالاته وأحيا المناسبات، وفي المدرسة الجعفرية قدم محاضراته وأعطى الدورس، وفي الجمعية الخيرية (جمعية البر والإحسان) واصل العمل وأكمله..
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الى ما هو أبعد من ذلك، فالمؤسسات التي أقامها الإمام الصدر بجهد خاص (بيت الفتاة، المؤسسة الاجتماعية، المدرسة المهنية، مدرسة التمريض...) أكد أنها من بركات وإلهامات السيد شرف الدين، مشيراً الى أن السيد شرف الدين كان صاحب أفكار أعماله، ولكن الظروف حالت دون تنفيذها، ولا فضل له في كل تلك الانجازات، لأنه يتابع مسيرة ويكمل أعمالها.